التشخيص النفسي واللغوي في: "نحيب الملائكة" للكاتبة هند لبداك

    مصطفى النحال


    هند لبداك ليست طارئة على الكتابة، فقد سبق لها أن نشرت مقالات نظرية ذات طابع فلسفي وعلمي ، فضلا عن اشتغالها في المجال القانوني. وها هي اليوم تدخل محراب الكتابة الأدبية من بابه الواسع، باب السرد القصصي، من خلال إصدارها لمجموعة قصصية تحمل عنوانا دالا وجميلا هو "نحيب الملائكة"، يختزل البعد الإنساني الكوني والقيمي الذي يخترق المجموعة ككلّ.
    تشتمل مجموعة "نحيب الملائكة" على أربع قصص طويلة هي على التوالي:
    1.    عطر البحر؛
    2.    خمار ودموع؛
    3.    إشراقة أمل؛
    4.    نحيب الملائكة، التي اختارتها الكاتبة عنوانا لمجموعتها.
    عناوين القصص، كما هو واضح، مكونة من كلمتين اثنتين، إما في حالة مضاف ومضاف إليه (عطر البحر، إشراقة أمل، نحيب الملائكة)، أو في حالة العطف (خمار ودموع). هذه الصيغة الثنائية لها علاقة بالبنية الدلالية للمجموعة، ذلك أن هناك ثنائيات كثيرة في ثنايا المجموعة تقوم أساسا على ثنائية الأنا والآخر لتمتد إلى ثنائيات أخرى مثل : الحب والكراهية، الخير والشر، اليأس والأمل، الهنا والهناك الخ. قصص المجموعة طويلة ذات نفس روائي واعد، ولن أتوقف هنا عند مسألة التجنيس التي كانت قد أثيرت مع نصوص الأمين الخمليشي ومحمد زفزاف والتي حُسم النقاش فيها بأنه من حق الكاتب أن يحترم إيقاع الكتابة السردية القصصية، لا أن يرسم لها حدودا. 

    وأنا أقرأ المجموعة حضرني عالم النفس سيغموند فرويد، وحديثُه الخصب عن اللاوعي في نص (كراديفيا). فمن خلال سبر وتحليل منظومة الأحلام المتناوبة، يكون التحليل غير منفصل عن إعادة دمج تلك الأحلام في النسيج الأساسي للنص ناظراً إليها كمعيار أساسي وهام يتم من خلاله تحديد أسس مبدأ تأويل التخييل باعتباره بنية مولّدة استناداً إلى المصائر النفسية للشخصيات المحيطة به مؤكداً بذلك ومن جديد على أهمية الشخصيات/ النصية ، وأن ما تم اكتشافه في كراديفيا من أحلام ونكوصات يعود إلى شخصيات النص وحيواتهم قائلاً : ( لا بد أن قراءنا دهشوا لرؤيتنا نعالج نور برها نولد وزويا بيرتغانغ في جميع ضروب التعبير عن حياتهما النفسية وعن أعمالهما وتصرفاتهما كما لو كانا شخصين حقيقيين ، وليسا مخلوقين من إبداع القاص.

    لكن وبعد سنوات من القبض على باعثين اللاوعي التي اكتشف معادلها ( فرويد ) في  كراديفيا  يقرر وبصورة صادمة وانقلابية  أن التحليل النفسي يسعى إلى معرفة خلفية الانطباعات والذكريات الشخصية، التي استند إليها الكاتب لبناء عمله، وهذا يعني أننا ننتقل من النص إلى السيرة الذاتية ومن الشخصية إلى الكاتب .
    لا شك أن تحول فرويد إلى تتبع مصائر الشخصيات في العمل الفني كمرجعية لاكتشاف لاوعي المؤلف في إطارها السيري قد أحدث انزياحاً كبيراً في منهج التحليل النفسي والأدب الذي سعى إليه فرويد منذ البداية ، وبدلاً من أن يكون للعمل الفني  لاوعيه الخاص، صار العمل الفني يخضع إلى معيار جديد يقوم على انقسـام  أنا الكاتب إلى أنَوات جزئية فمختلف الأبطال يجسدون اتجاهات الحياة النفسية المختلفة.

    حضرني هذا التحليل الفرويدي لأن مجموعة "نحيب الملائكة"، منذ القصة الأولى، تحكي عن الساردة/الأستاذة التي سبق لها أن خضعت لحصص العلاج النفسي، والتشخيص النفسي الذي يتخلل باقي النصوص ( انظر ص. 127 و155). إنه سرد وجرد لعدد من الشخصيات، لحيواتها وانفعالاتها المتعددة، لفرحها وغضبها، حبها وكراهيتها، تشاؤمها وتفاؤلها الخ. ومع ذلك فأنا لا أنساق وراء الخلاصات التي انتهى إليها فرويد ووراءه ما بات يُعرف باسم النقد النفسي التقليدي. ذلك أن النّصّ الأدبي لا يمكن تحويله إلى ذات مطابقة لذات الكاتب، لأن هذه المطابقة لا تخلو من اختزال أو تعسّّف يؤدي إلى تجاهل خصوصية النص واستقلاليته، كما يؤدي إلى إهمال الجوانب الشكلية والفنّية. فالنقد النفسي التقليديّ، إذ يركّـز على المدلول الروائي، يكون بعيدا عن إدراك القوة التي يمكن أن تكون للدالّ الروائي.
    إنها قراءة تقود إلى هذا الموطن النوعيّ الفريد من نوعه في اللغة الذي نسمّيـه: الأدب، وتجعلنا نكتشف أنّ هذا الموطن اللغوي هو الذي يعبّـر فيه الواقع السّـرّي للإنسان عن نفسه بشكل وقوة خاصّـين. فالأدب هو هذه اللغة الأخرى التي ينبغي النظر إليها على أنها عمل أو اشتغال يقع بين الرغبة والمحكي، أي أنه اللغة التي تسمح بإسماع كلام آخر غير الكلام المألوف، فاللغة الأدبية لا تجعلنا نسمع أصوات الآخرين فقط، بل هي اللغة الأخرى التي تكاد تتخصّـص في إسماع ذلك الآخر الموجود في الداخل، في داخل الذات(الكاتبة والقارئة).

    تحكي قصص "نحيب الملائكة" عن شخصيات أنثوية ودكورية، عربية وغبر عربية (ريتشارد، برايان، مراد، نجوى، نموذج الحب الطاهر، فريدة، فاطمة ووأمها شامة، كاترين، ماري، لاورا، جوليا، إيزابيل...) وهي شخوص تمتهن مهنا مختلفة وقادمة من فضاءات متباينة وأُسَر متفرّقة، غير أن الذي يوحّدها جميعها هو ما يمكن تسميته "التعبير الصريح عن العمق الإنساني". جلّ الشخصيات داخل المجموعة تعبر عن مشاعرها وعلائقها وأحلامها وخيباتها وتفاؤلاتها بلغات مختلفة من حيث الطبيعة والسجلّ ( أحلام، أحلام يقظة، حوارات، مراسلات، بوح الخ).
    شخصيات المجموعة القصصية للكاتبة هند لبداك تلقائية تتحدث لغة أو لغات أقرب إلى لغات التخاطب اليومي. شخصيات عاطفية، مرهفة الأحاسيس. لذلك لا تتشابك علائقها في الاتجاه السلبي لأنها تنصت للآخر وتحترم مشاعره وآراءه. ثم إن آمالها مفتوحة، غير أنها ليست آمالا مادية ومحسوسة بقدر ما هي آمال قيمية تتصل اتصالا مباشرا بسلّم قيم تربوي وراهني ( قيم التسامح، قيمة الأطفال المتخلّى عنهم، قضية حوار الأديان، وهذا هو ما يفسّر اختيار الكاتبة لأسماء أجنبية تعمل على تشخيص هذا الحوار المحترم للاختلاف والتعدد. فضلا عن قيم الحياة العادية وقيم السّلم والحب والدفء العائلي المرغوب فيه، بل والضروري لتحقيق التوازن).

    - في ثلاث قصص السارد امرأة كالكاتبة، الأولى والثانية والرابعة، لكن في القصة الثانية فالسارد رجل. ومع ذلك فقد نجحت هند لبداك في تقمص شخصية السارد لتنظر إلى القيم المشار إليها من قبل من زاوية أخرى.
    - من الناحية التقنية عملت الكاتبة على الربط بين مستويين من التشخيص: التشخيص النفسي الذي أشرت إليه سابقا يوازيه تشخيص آخر هو الذي يسميه باختين التشخيص اللغوي. هذا الأخير يعمل داخل المجموعة على تنسيب لغة الكاتب والسارد معا، بحيث يغدو كلام الآخرين معادلا لكلام الكاتب. كما أن التعدد الصوتي المرتبط بالوعي، وعي الشخصيات، لها علاقة مباشرة بالتشخيص النفسي. وفي الأخير أشير إلى السجل اللغوي الذي تستعمله الكاتبة، وهو سجل يجمع بين لغتي الوصف والسرد تختلفان من حيث الطول والقصر تتخللهما لغة سردية جميلة. وباختصار، فقد سعدت بقراءة "نحيب الملائكة" لهند لبداك، وهي كاتبة واعدة لها كلّ الحظوظ لتمتع القارئ بنصوص جميلة من شأنها أن تشكل إضافة للحقل السردي المغربي والعربي.

    © 2024 Your Company. All Rights Reserved. Designed By JoomShaper

    Please publish modules in offcanvas position.