أيادي الفنّ المتّسخة
عبد اللطيف الزّين
سواء أتعلق الأمر ب"أياد متسخة" أمْ بمافيا، فإن المقصود هنا على كلّ حال جماعة من الأشرار التي تمتد تشعباتها لتستهدف مختلف القطاعات انطلاقا من مصلحة محددة. وهذه الجماعة تنتظم من أجل ولوج سائر الدواليب التي تسيّر وتتحكم في هذه القطاعات، وهي في ذلك تلجأ إلى كلّ أنواع الحيل والخدع والضغوطات والإرشاء وضروب أخرى من التخويف لتحقق أهدافها. نحن إذن أمام مافيا يمكن أن نطلق عليها اسم "مافيا الأعمال" والشوبيز والمخدرات والسياسة، وفي الحالة التي تهمّنا هنا يتعلق الأمر بمافيا الأعمال والتحف الفنّية.
ففي بلد مثل المغرب، حيث بيع التحف بالمزاد العلني يُعتبر ظاهرة سوسيوثقافية حديثة العهد نسبيا، يغدو الحديث عن وجود مافيا حديثا ملائما ومناسبا. إنها مافيا راكمتْ وما فتئت تراكم ثرواتها من خلال شراء اللوحات الفنية من فنانين يعيشون ضائقة مالية، أو لوحات لفنانين فاجأهم الموت في سنّ مبكّرة مخلّفين وراءهم أعمالا فنية معترفا بها ولها قيمة مادّية اليوم. مافيا متمركزة حول سوق واعد بكل أسباب الربح، وتذرّ من ورائه بكل حذْق أرباحا طائلة من خلال لجوئها إلى معاملات مالية تتم في معظم الأحيان نقدا، وتتخذ كلها شكلا من أشكال تبييض الأموال والارتشاء واختلاس أموال تشتمّ منها رائحة الاتجار في المخذرات. يتعلق الأمؤر باختصار بعمليات مشبوهة تغرق هذا السوق في فساد مضارباتي يحار معها الإنسان العادي! إن الضمانة الصارخة التي تعتمد عليها هذه العصابة من قنّاصي المال هي في معظم الحالات اللوحة المزيّفة والقطعة الفنّية المغشوشة، بحيث تنجح في بيعها وترويجها بدون أدنى صعوبة أو عناء، وأمام مرأى ومسمع من الجميع. فكم من فنان مقلّد ومزوّر شارك في هذه المهازل، وذلك من خلال تزويد السوق بأعمال فنية مغربية أو أجنبيّة يتمّ إنتاجها في إيطاليا أو في بلدان آسيوية، مستعملين في ذلك عن قصد مقوّمات وموادّ تنتمي إلى العصر الذي رسم فيه الفنان الحقيقي لوحته الحقيقية، وذلك من أجل التمويه وإضفاء طابع الأصالة على اللوحات لكي تبدو حقيقية وأصلية؛ وكلّ هذا في تواطؤ تامّ مع خبرة أجنبية يتمّ شراؤها. وتوجد بعض قاعات البيع بالمزاد العلني التي تجيز هذه الأعمال الشنيعة، وتضفي عليها المصداقية مقابل جنْي أرباح من ورائها.
ونقتصر، في هذا السياق، على ذكر مثاليْن اثنيْن علبى سبيل التمثيل لا الحصر: 1) قبل بضع سنوات لا حظنا بأنّ لوحتيْن من اللوحات الثلاث للفنان ماجوريل، المعروضة للبيع، والمشار إليها في كاتالوغ المعرض، لم تكن هناك أيّة إشارة إلى كوْن هذه الصباغة على الورق كانت ملتصقة على القماش من طرف أحد المزيّفين لكي تباع بثمن باهض ليس إلاّ. 2) أما المثال الثاني، فإنه يتعلّق بالفنان الغرباوي الذي بيعت أعماله مؤخّرا في المزاد العلني بأثمان عالية جدّا، ولم يعرف أحد خلال عملية البيع بأنّ أعماه تمّ ترميمها وإعادة صقلها من طرف فنّان تشكيلي يقطن بالرباط!
وهناك تصرّفات أخرى أيضا لا بدّ من التنديد بها، والتي تستفيد منها بشكل كبير هذه عصابات الفنّن ضدّا على القانون الناقص أو العجز عن ملاحقة هؤلاء. وأشير هنا على سبيل المثال إلى الخروج السّرّي من المغرب لعدد من اللّوحات في اتجاه بلدان أجنبيّة، وعودتها إليه بطرق ملتوية باعتبارها واردات مصرّحا بها، وبالتالي بيعها وتحويل أرباحها بالعملة نحو الخارج ووضعها في حسابات شخصيّة.
هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإنّ اقتناء لوحات فنيّة من طرف مالكين، أو من طرف عائلاتهم المالكة لقاعات البيع بالمزاد العلني، أو من طرف وُسطاء لهم غير معلَنين، تُعتبر عن حقّ وسيلة أخرى للإيقاع بالزبناء الذين يأتون لاقتناء اللوحات في مزاد علني غير مشروع، وهو سلوك يعاقب عليه بشدّة في الغرب. وهذا معناه أنّ هؤلاء المالكين، أو شركاء الظّلّ المرتبطين بهم، يقدّمون للبيْع أعمالا فنّيّة غير خاضعة منذ البدء للخبرة، وبدون شهادة وصفية يقدّمها من له حقّ الملكية أو يقدّها خبير محلّف. وهكذا، ففي ظلّ الفراغ القانوني الذي يعرفه المغرب في الميدان الفنّي، نلاحظ انّ مثل هذه الممارسات قد تدنّت ونزلت إلى سلسلة من المواقف والمسلكيات محتالة وخادعة إلى درجة أنّ أوّل تاجر في المجال الفنّي يعتقد أنه أهل لكي يرشد مقنتي الأعمال الفنّيّة، بل ولأن ينصّب نفسه خبيرا في الشؤون الفنية، مكيّفا بذلك سوق قيمة اللوحات وثمنها وفق مزاعم وادّعاءات لا علاقة لها بالفنّ، في حين أنّ ما يجري في الغرب يبقى خاضعا لمعايير صارمة ومراقبة بحسب القانون الجاري به العمل.
وفي الوقت نفسه لا نفهم كيف أن متاحف تنتمي إلى مؤسسات عمومية أو شبه عمومية (مثل ما كانت تقوم به إلى وقت قريب وزارة الثقافة عندما كانت تعطي، لتقتني لوحات تشكيلية لها، نفس المبلغ المالي لفنانين معروفين وآخرين مجهولين في الآن ذاته) تعمد إلى شراء أعمال فنية باللجوء إلى المزاد العلني من أجل إغناء خزانتها الفنية، هذا في الوقت الذي تقتضي فيه قاعدة أخلاقيات المهنة أن تشتري المؤسسة الأعمال مباشرة من أصحابها الذين تقدم لهم نصف الثمن المطلوب، وذلك بطبيعة الحال من خلال إعطاء القيمة اللازمة للفنان، والأخذ بالاعتبار درجة شهرة وقيمة كلّ واحد!!
وفيما يخصّ الفنان، فإنّ هناك أشياء كثيرة يمكن قولها أو إعادة قولها. ذلك أن بعض الفنانين يستعملون نفس الوسائل المشبوهة تقريبا ويقيمون إشهارات صاخبة من أجل إبراز صورتهم باعتبارهم فنانين. وبطيعة الحال فإنهم ينجحون في الوصول إلى تحقيق القيمة الفنية المأمولة، وهي قيمة مبالَغ فيها لم تتحقق إلا بالتواطؤ الخفيّ مع عناصر أخرى لا يهمّها سوى الربح المادّي ولا تأبه بالفنّ: أصدقاء ميسورون، أبناك، قاعات للعرض، مؤسسات تجارية. والجميع هنا يحرّكه الربح وليس الضمير والأخلاقيات. ويكون المقتني هو الضحية في نهاية الأمر لأنه يعمد إلى شراء لا قيمة وناقصة من الناحية الفنية بأثمان باهضة، عن طريق السماع فقط أو من أجل التباهي والتبجّح.
والحال أنه ينبغي أوّلا وقبل كلّ شيء أن نعرف حقّ المعرفة مسار الفنان الذي نودّ أن نشتري عمله الفني، والتأكّد من قيمته الفنية الحقيقية في بلده قبل الإقدام على دفع ثمن لوحاته. غير أنه في هذه اللعبة الخطيرة، اللعبة القذرة، التي يفقد فيها الفنّ مصداقيته، نجد أنّ الجميع يسيل لعابهم عند أوذل عثرة لقطعة نقدية: أصحاب القاعات، نقّاد الفنّ، بعض الصحافيين غير المسؤولين والمتواطئين. بات الجميع لا يؤمنون إلا بسلطة المال ، ويلهثون وراء هؤلاء المخرّبين في انسجام تامّ من أجل التنقيص من قيمة الفنان التشكيلي الذي يأبى أن يتواطأ معهم. ونحن نؤمن بأنّ الفنّان الحقيقي، أي الفنّان الموهوب، لا يمكن أنْ يبقى محجوبا عن الأنظار بما أنّه يظلّ في الوقت ذاته حُرّا وقويا بالهبة التي منحها الله له.
فأنْ تحرّك المرء مثل هذه النوايا السيئة التي من شأنها ازدراء الناس فضولا قليلا وكذا الفنّ والفنانين، بغية الهيمنة على سوق للفنّ مافتئ يحبو خطواته الأولى، رغم أنه يعد بالشيء الكثير مستقبلا، معناه المجازفة بالوصول إلى حالة انعدام الثقة وسوء السمعة من طرف الجميع! والهيمنة هنا معناها إنشاء وخلق قاعات للبع هنا وهناك وكيفما اتّفق مثل فخاخ مجهولة، وتحت شعارات محض تجارية وبإسفاف، ومعناها إصدار مجلّة قائمة بصورة كبيرة على المحسوبية وادعائية من خلال وصفها بالمجلّة "المتخصّصة"، معناها كذلك تنظيم معرض كأنه قُدّاس أسود، بهدف توسيع منطقة نفوذ المنظّمين مثل أنا ضامرة. إنها نماذج وأمثلة سلبية عن لوجيستيك فنّي لا يأبه كثيرا بأخلاق المواطنة، وبالتالي لا ينبغي اعتماده وتبنّيه مطلقا. أمام هذا السلوك الاحتكاري والأناني لا يسع المرء إلا الدعوة إلى اتخاذ كل ضروب الحيطة والحذر، ذلك أنه سلوك يندرج تحت اسم الجريمة الجنائية.
لابد لنا اليوم من معرفة أنّه في العديدي من بلدان العالم، لم يعد الاهتمام ينصبّ سوى على اقتناء لوحات فنّان القٌرب "المدينة-البلد". لقد ولّى الزّمن الأسطوري لباريس التي كانت تحتكر سوق الفنّ التشكيلي، والتي استطاع الفرنسيون، ومعهم المصريون، بفضلها تطوير الاقتصاد الفني والثقافي والسياحي لبلديْهما وإضفاء القيمة عليه. لم يعد الناس في نيويورك يشترون سوى فنان نيويورك، وكذلك الأمر في طوكيو وغيرها من المدن العالمية. فضلا عن الشفافية التامة التي تجري فيها عملية البيع والشراء. طيلة الخمسين سنة التي مارست خلالها الفنّ التشكيلي، كنت وما زلت أناضل من أجل الاعتراف بالفنّان، كما ناضلت بإصرار كبير وتفان من أجل خلق قانون خاص به وتطبيقه على الوجه الأكمل، وخلق بطاقة الفنّان. كما ساهمت من جهة أخرى باعتباري عضوا في تأسيس تعاضدية الفنّانين. لم أتوان يوما ما في تحمّل مسؤوليتي، ومن هنا فإنّ الدوافع العميقة التي جعلتني أصبح خبيرا في المجال الفنّي لا يحرّكها سوى هذا التذمّّر والسخط، الذي عبّرت عنه بوضوح وشجاعة في هذه الورقة، من انتشار وتزايد الأعمال الفنية المزوّرة ومزوّري الفنّ.
إنّ الإرادة الحقيقية التي تحرّكنا هي ضرورة تنظيم هذا القطاع، وذلك بالنّظر إلى كوْن معرفتنا بالأعمال الفنية ناضجة بما فيه الكفاية لكي تجعلنا نشهد بصحة العمل الفني أو تزويره، وبصورة خاصّة أعمال أصدقائنا المرحومين أحمد الشرقاوي وأمين الدّمناتي والشّعيبية طلال، وفنانين آخرين لازالوا على قيد الحياة. وقد كان الشعار الذي ننطلق منه دائما هو التنديد بكلّ أشكال الهدم والتخريب التي ابْتُلي بها القطاع الفنّي في بلادنا، مع العمل، بموازاة ذلك، على تحسين طروف عيْش الفنان التشكيلي المغربي، والله وحده شاهد على ما أقول.