خطاب الرغبة والقانون القُصّاص في الثقافة العربية الكلاسيكية

 


خطاب الرغبة والقانون

القُصّاص في الثقافة العربية الكلاسيكية

مصطفى النحال

تتشكّل فئة القصّاص من خليط من الرواة الشفهييّن والمذكرين والوعّاظ وقراء القرآن وأصحاب الكرامات1. فالجمهور الذي يحضر، من أجل الاستماع للحكاية، أو يقرؤها، يطمع في التغريب والغرابة، بخلاف جمهور القاص، مثلا، الذي يطمع في الثواب والمغفرة، ويخاف من التهويل، ويتأوه لرغبته في المتعة الدنيوية، التي قد تتعارض مع نجاته في الآخرة. لذلك كان خطاب القاص أكثر فعالية وأشد وقْعا، لأنه خطاب يرتكز أساساُ على ثنائية الترغيب في الجنة والترهيب من عذاب القبر والنّار. فالقاص الواعظ، عندما يدمج في أحاديثه وأقاصيصه الكائنات الخرافية والحوادث الخارقة للعادة، فذلك من أجْل تحقيق هذه الغاية المتمثلة في تهويل عذاب الآخرة. وهو، في كل ذلك، يطلب من السامع أن يصدقه، بحكم أن هذا التصديق ذاته يُعدّ جزءاً من البناء العجائبي والغرائبي الذي يبنيه القاص.

لكن، من هم، أوّلا، هؤلاء القصّاص الذين يحمّلهم مؤلّفون، من أمثال ابن خلدون وياقوت الحموي وسبط ابن الجوزي، مسؤولية الوضع والخرافة واختلاق الحكايات ؟ ثمّ ما هو الدوْر الذي لعبوه في شحذ مخيلة المتلقي المرتبطة بالعالم الآخر ؟ وإلى أي حدّ يندرج أبو حامد ضمن زمرتهم ؟.

يرسم شارل بيلا لوحة صورة متكاملة عن طبيعة القاصّ ووظيفته في الثقافة العربية الكلاسيكية2. إنه شخصية متعددة المشارب والوظائف، مكلفة بنشر الإيمان بواسطة الكلام. فمع القاص، نبتعد عن الخطاب العالِـم، أو التأمّل الصوفي، لنتتبّع الحوار بين رغبة ووظيفة، رغبة المؤمن الذي يحتاج إلى العقيدة، ووظيفة من يقدّم هذه العقيدة، ويتولّى، لتحقيق هذه الغاية، تقديم تشخيصات معيّنة. : فقد يكون قاصّا خطيبا بالمسجد، أي شخصية رسمية مكلفة بإلقاء خطبة يوم الجمعة، أو قاصا “شعبيا” يلقي مواعظه وأحاديثه أمام العامّة معتمدا على “سذاجة الجماهير، فيكسب عيشه بإنشاء الحكايات المؤثرة والقصص يثير بها عواطف الجماهير شأنه في ذلك شأن شعراء الجاهلية الذين كانوا يستثيرون النزاعات القبلية ، ويعطينا “المدّاح”، في إفريقيا الشمالية اليوم، فكرة صحيحة، إلى حدّ ما، عما كان عليه القاص في القرون الوسطى”.3

كان القاص، بحكم بساطة خطابه، وفعاليته كذلك لكثرة تصويره، يتمتع بشعبية كبيرة لدى العامة، وهي شعبية تفوق تلك التي كان يتمتع بها الفقيه والعالم اللذين لم تكن شروحاتهما وتفسيراتهما دائما في متناول الجمهور العامي، الذي يميل إلى العجائب والوصف التصويري الدقيق، ويمثّل نوعاً من الذوق العام. .

تاريخيّاً، ارتبط ظهور القصّاص، أولا، بالفتن التي عرفها العالم الإسلامي في العصر الأمـوي4، حيث كانوا يقومون بإذكاء حماس الجيوش الإسلامية من خلال تفسيراتهم المتعلقة بالجهاد والتواب والجنة والنار. ورغم كون وظيفة القاص، في البداية، كانت إسلامية بحتة، وهذا ما جعلهم يقومون بهذه الوظيفة داخل المساجد، إلا أنه سرعا ما اكتسبت سمعة سيئة ، نظرا لكوْن بعض القصاص بدأوا يمزجون وعظهم وقصصهم الإسلامية بأخبار يهودية ومسيحية، وبحكايات شعبية ما قبل إسلامية 5 . ولم يسلم من هذا المزْج حتى أولئك الذين كانت نواياهم صادقة؛ ومن ثم صار حديث ” إن بني إسرائيل لمّا قصّوا هلكوا”6، علامة سلبية في وجْه أصحاب القصص. وهذا ما جعل ابن الجوزي قاسيا معهم، ومهاجما إياهم في كتاب يحمل عنوانا دالا ، هو تلبيس إبليس ، يقول : “خست هذه الصناعة ، فبعد عن الحضور عندهم المميزون من الناس ، وتعلق بهم العوام والنساء فلم يتشاغلوا بالعلم ، وأقبلوا على القصص وما يعجب الجهلة، وتنوعت البدع في هذا الفن” 7 . يستنتج من هذا القول ، وبغض النظر عن خلفيته ، أن الوضع الاعتباري للقاص ، انتقل من الوعظ إلى التسلية ، ومن الخطاب الجدي إلى الخطاب الذي يتلاءم مع أذواق العوام ويشدّ مسامعهم، أي انتقل من القدسي إلى الدنيوي. بمعنى أن وظيفة القاص كانت تستمد مشروعيتها من الجمهور. فالقاص يشبع فضوله الخيالي ويحقق له رغبته في التصوير والتشخيص وإعطاء التفاصيل المثيرة عن الأحداث والأشخاص، أي أنه يتكلم وفق أفق انتظاره.

وهكذا، فإن القاص كان حاملا لخطاب ذي وظيفة اجتماعية تستجيب لرغائب العامة، وتخاطب مخيلتهم وعواطفهم. وهذه الوظيفة أساساً ذات موضوع ديني. وهي خاصية تميز القصّاص عن رواة الحكايات والمسامرات والمقامات. ولأنهم كذلك، فقد كانوا يعرفون كل شيء، ويجيبون على جميع الأسئلة. فمثلا، يروي ابن الجوزي كيف أن والدة أبي حنيفة أرادت أن تعرف بعض التوضيحات حول مسألة من المسائل، فاتجهت إلى أبي حنيفة الذي أجابها بجواب لم يشف غليلها، ثم طلبت منه أن يرافقها إلى أبي زرعة القاص الذي أكد لها جواب ابنها بطريقته الخاصة.

إلا أن حملة الفقهاء ضد القصاص كان مصدرها سببٌ آخر، هو روايتهم لأحاديث نبوية خالية من الإسناد، أو ذات إسناد ضعيف، أو قيامهم برواية أحاديث موضوعة، أو مطبوعة بطابع الإسرائيليات، حسب الشروط التي وضعها القدماء لصحة الحديث8. وهذا الوضـع، لم يكن مصدره، حسب غولد سيهر9، تشيعا مذهبيا ولا سياسيا ولا دينيا ، بقدر ما كان القاص يهدف ، ببساطة ، إلى الوعظ والترويح على الجمهور، أو إلى البحث عن الربح المادي؛ وهو السبب الذي كان يؤدي، في الغالب، إلى الغيرة والحسد . لهذا أصبحت عبارة “القاص لا يحب القاص” بمثابة مثل سائر، وعنوان على المنافسة حول كسْب المزيد من الآذان.

وعلى صعيد آخر، فإن القصّاص نوعان، وذلك تبعاً لمضمـون خطابهــم، وتبعاً ل “الحدود المنطقية” لهذا الخطاب: هناك، من جهة، قصاص العامة، الذين يروون قصصا ذات طابع تخييلي مرتبط بمشاهد القيامة وأهوال القبور، وبحضور قسط كبير من الغرائبي والعجائبي، وتمتح من الأخبار والأساطير، وتعبر عن أحلام الطبقات الدنيا وآلامها وآمالها ومخاوفها، وكل ما يعبر عن نزعاتها المكبوتة ، وكان هؤلاء القصاص يتميزون بالشفهية، وبقدرتهم الكبيرة على ارتجال الحكايات .

فهم الذين لعبوا دورا كبيرا في استكمال خطاطة المتخيل المتصل بتفاصيل الأمم الغابرة، وبالمباني والقصور والمدن التي شيّدها النبي سليمان والإسكندر. وذلك بفضل لغتهم التصويرية والتشخيصية والمثيرة، القائمة أساسا على ثنائية فعّالة هي ثنائية: الترغيب والترهيب . وإذا كان الفقهاء يتوجهون في أغلب الأحيان إلى فقهاء آخرين، أو إلى مؤمنين يعرفون خطابهم قبل سماعه، فإنهم لا يتوجهون إلى العوام، الذين يجهلون لغتهم ” الفكرية، ويفهمون لغة القصاصالتصويرية”: القادرة على خلق “تشخيصات المتخيل”. ومن ثم يكون كلامهم فعالا ونافذا، لكونه ينفذ إلى أعماق الناس ويعكس رغبتهم في العيش بإيمان تشخيصي يستمد قوته من مصدر مجهول، ومن الحاجة إلى العجائبي10.

ومن جهة أخرى، فإن الفضاء الواسع الذي يتحرك فيه قصاص العامة، يسمح لهم بالاتصال المباشر والفعال بأكبر عدد من الناس. ويتشكل هذا الفضاء الواسع من الأزقة والمساجد والأسواق والمقابر والساحات العمومية.

أما النوع الثاني من القصاص، فهم قصاص الخاصة، الذين يقتصرون، في غالب الأحيان، على مجالس الذكر أو العلم، وعلى الوعظ والإرشاد وإلقاء الخطب الدينية بالمساجد أو داخل البيوت. وكان أغلب هؤلاء القصاص من النساك والزهاد الورعين.

هناك تمييز آخر ينبغي القيام به، ويتعلق الأمر بطبيعة هذه المجالس التي كانت تعقد في فضاء ضيق ومحدود. إذ نجد، من جهة، مجالس “رسمية”، خاصة، تعقد بحضور الخليفة أو الوزير. وهي مجالس تتطلب تمكنا من فنون الرواية والأخبار والآداب، أي تتطلب إتقان فن الكلام. إلا أن هذه المجالس، هي إلى المناظرة أقرب منها إلى مجالس الوعظ، والترغيب والترهيب والتذكير بعذاب القبر وسؤال الملكيْن وعذاب القيامة. ونجد، من جهة أخرى، هذا النوع الأخير من المجالس التي يكون محورها أحد الزهاد أو أصحاب الكرامات أو العلماء أو الأدباء. ونجد، ضمن هؤلاء، حتى مؤلفين عُرفوا بكتاباتهم “العالمة”، أمثال أبي حامد الغزالي الذي خصص كتاباً لهذا الغرض يحمل عنوان الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة.11

انبثقت فكرة “عذاب القبر” من كوْن أن الشخص، عندما يموت، يينتقل مباشرة إلى حياة أخرى داخل قبره. وهو ما يعرف بالقيامة الصغرى، التي تليها القيامة الكبرى يوم الحساب الأكبر. ورغم التنْويعات الكثيرة، حول تفاصيل هذه المرحلة، فإنه يمكن تقسيم الأحداث التي تجري داخل القبر إلى ثلاثة أقسام هي12:

القسم الأول هو الذي عبّر عنه الغرناطي بقوله: “القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار”، فهي للمؤمنين الذين سبقت لهم من الله الحسنى، نعيم وراحة؛ ولمن ختمت له بالشقاوة عذاب ومحنة ونار مؤججة، وقد يظهر عز وجل في الدنيا بعض منا أعده من العذاب، وما أعدّه الله لأوليائه من الكرامات”. فملائكة الرحمة يأتون للبحث عن أرواح المؤمنين، وبالمقابل يأتي ملائكة العذاب للبحث عن الكفار. وأرواح المؤمنين تكون في حواصل الطير13 فوق أشجار في الجنة، حيث ستجتمع بالجسد يوم القيامة الكبرى. والملاحظ، في هذا القسم الأول، أنه نسخة مصغّرة عن الجنة والنار.
الموتى سيتعرضون للحساب من طرف مَلَكيْن هما: “منكر ونكير”. وهما ملكان
أسودا اللون، بعينين زرقاوين، يُجلسان الميت، في قبره، ويشرعان في مساءلته عن دينه، وعما قام به من أعمال في حياته. وسيردّ المؤمن “بالقول الثابت، بعد ذلك، سوف يريانه موقعه في النار أو في الجنة، ويتركانه إلى يوم الحساب. وبما أن الكافر لا يستطيع الإجابة الثابتة، فإنه يتعرض لتعذيب وضرب تخرج منه نار ملتهبة، ويسمع صوت العذاب جميع الخلائق باستثناء الناس والجنّ. وبالطبع، لا ندري ما إذا كان عذاب القبر مرحلة مؤقتة، أو أنها ستدوم إلى يوم القيامة.
الموتى يشعرون بالعذاب انطلاقاً من بكاء الناس عليهم، ثم إنهم يسمعون خطاهم
وهم ينصرفون، بعد دفنهم. ويجد المؤمن قبره واسعاً، بينما تنضغط عظام الكافر لضيْقه. وتتكلّف بتعذيب الكفار حيّة عظيمة من نار، متعددة الرؤوس، إلى يوم القيامة، مثل القصة التي رواها أحد الغرباء لأبي حامد الغرناطي، مفادها أنهم حين سألوه عن سبب مغادرته لبلده وأهله، فأخبرهم أنه لما مات ابن عمّ له، ودفنوه، سمعوا، عند زيارته، صوت ضرب داخل القبر، وحين فتحوه وجدوا حيّة ” سوداء، مقدار ذراعين في غلظ الساق، وفمها في فمه، وهي تحرك رأسها في فمه، كأنها تلقي في فمه شيئا، وتضرب بذنبها الصندوق.14
هناك، إذن، مسافة كبيرة بين ما جاء به القرآن الكريم عن عذاب القبر من
تلميحات، وبين التفصيل الذي يصور مراحل العذاب داخل القبر. المتخيل الإسلامي يعطي لهذين الملكين اسمين هما : منكر ونكير، ويصوّرهما بعدة أوصاف منها: عيونهما الزرقاء وأجسامهما الضخمة السوداء، وصورتهما القبيحة. كما تختلف صورتهما وأصواتهما بحسب طبيعة عمل الإنسان. وإذا كان الغرناطي لم يشر إلى كلّ هذه التفاصيل، فإن الذي يهمه ليس هو وصف الملكيْن، وإنما وضعية الإنسان وشعوره وما يحصل له داخل القبر. ومن ثم تركيزه على وصف ما يجري في الداخل من اشتعال النار15، وتعذيب وضرب (ص، ص. 145، 146).

ليْس هناك ذِكْر للملكيْن في القرآن الكريم، كما أنه لا يذكر عذاب القبر صراحة ، بل يقتصر على التلميح إليه في بعض الآيات16 : “يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء” ، (سورة إبراهيم الآية 28). والأحاديث النبوية، بدورها، لا تسمي الملكين، إنهما من إبداع المخيلة التي تدقق وتفصل وتسمي، لتخلق، بذلك، حوارات طريفة داخل القبر. وترد هذه الحوارات في أبواب يسند مضمونها إلى رواة مجهولين أو غير معروفين أو مطعون في أخبارهم17. وهذا ما يفسر وفرة المغايرات، التي يمكن إجمالها في أربعة:

أ‌. نوع يغيّب الملائكة.

ب‌. نوع يستحضر ملاكا واحدا.

ج‌. نوع يستحضر ملكين اثنين دون تسميتهما.

د‌. نوع يذكر اسمي “منكر ونكير”.

يصنّف الغرناطي، ضمن القسم الأوّل، من يسميهم أصحاب “كرامة المؤمن”18، عند حديثه عن أرواح الشهداء وأصحاب أهل الكهف، وهم سبعة موتىستة منهم نيام على ظهورهم، وآخر نائم على يمينه، وعند أرجلهم كلب، لم يسقط من أعضائهم ولا من شعورهم شيء(…) وعلى الكهف نور عظيم، والدعاء عندهم مستجاب، وهذه كرامة الله ظاهرة لعباده في الدنيا”19.

قبور عاد في حفائر صعبة المسالك والممرات، بحيث توجد في مغارات معزولة. يتعلق الأمر بعالم معزول، عام مصغّر أقيم في جبل، في مغارة، في مكان ناء. فالمغاور عبارة عن منعزلات سرية، ومحلّ إقامة للخالدين (…) ومكان للمسارات. إنها تمثّل عالما فردوسيا، ولهذا السبب يكون الدخول إليها صعبا20. وهو كذلك رمز للإقامة الخالدة، ذلك أن فكرة المقام التام، المتضمّن للجبل أو الماء، أو الجبل والماء، كما هو الشأن مع قبر سليمان، هو تجسيد للخلود الأرضي بعد الممات، بعد أن تعذر الخلود في الحياة.

حفيرة مرثد بن شداد، التي وجدوها تحت الأرض21، وكان مرثد، فيما يقال، مؤمناً بهود، عليه السلام. وحكي أنهم عرفوا قبر شداد بن عاد بحضرموت، وذلك أنهم وقعوا في حفيرة، وهي بيت في جبل منقورة مائة ذراع في أربعين ذراعاً، وفي صدره سرير عظيم من ذهب.

وكما هو الشأن بالنسبة للعديد من النصوص العربية، تتوزع عجائب عالم ما بعد الموت، في التحفة، إلى ثلاثة أنواع: مشاهدات ومرويات ومقروءات.

1. نوع شاهده الغرناطي: فهو يقو عن أحد أمراء الأندلس، الذي كان ظالما غاشما ” فقد رأيت في بلدي غرناطة قبر رجل من الأمراء(…) كان اسمهقداح”، وأنه لما مات بني على قبره قبّة عظيمة، وعمل على قبره ألواح من الرخام الأبيض كالعاج حسناً، فتقطع ذلك الرخام واسود واحترق واسودت القبة من الدخان الذي كان يخرج من قبره حتى صار كالأتون، ولم يدفن أحد بقربه ميتا، وكنت أذهب مع الناس إلى قبره للاعتبار”22.

2. نوع روي له، مثل القصة التي أشرنا إليها عن الشاب الذي التقاه الغرناطي، حين كان مقيما بسخستين، سنة 528هـ، وكان قد مات ابن عمه له ودفنوه، وحين زاروه في اليوم الثاني، سمعوا داخل قبره صوت ضرب، فاعتقدوا أنه مازال حيّا، لكن حين فتحوه فوجئوا بالشاب ملقى على ظهره، وكفنه ممزّق وقد اسودّ لونه، ووجدوا حيّة ” سوداء، مقدار ذراعين في غلظ الساق، وفمها في فمه، وهي تحرك رأسها في فمه، كأنها تلقي في فمه شيئا، وتضرب بذنبها الصندوق”23 . غير أن أهل الميت لم يكتفوا بالتفرج على مشهد “عذاب القبرهذا، بل إنهم دخلوا في صراع مع الحية، وصار كل واحد منهم يضربها بالرمح الذي في يده دون جدوى، إلى أن أخبرهم رجل بأن هذه الحية هي “ملك الزبانية”24

3. نوع قرأه عند الشعبي، في كتابه سير الملوك، حيث ترد الأولى هي حين قدم أحدهم عند علي بن أبي طالب، وهو جالس في الكوفة، فسأله عّلي عما إذا كان يعرف الأحقاف، ففهم الرجل أنه يقصد قبر هود عليه السلام، ثم بدأ في وصفه: ” دخلتها في حال شبابي، أنا وصاحب لي، فنزلنا مائة درجة محفورة في الجبل، حتى أفضينا إلى أزجّ عظيم فيه سرير من الرخام عليه رجل كقطعة الجبل، وجسده على هيئة الأحياء، لم يتغير، جميل الوجه، مع عظم جسده، وعليه ثياب يمانية، وعند رأسه لوح رخام مكتوب فيه شعر”25، ثم يذكر أبياتاً تشير تلخص ما وقع له مع قوم عاد، حين رفضوا دعوته لهم، وكيف أنزل بهم الله أشدّ العذاب.26

هناك ملاحظة في غاية الأهمية، بالنسبة لموضوعنا، وهي أن الأنبياء والملوك والشخصيات، الميثولوجية أو التاريخية، الذي تم العثور على قبورها، أو الوصول إليها، تكون جثثهم غير متحللة وغير مكفّنة. بل أكثر من ذلك، تكون مرتدية ملابس فاخرة، ومحاطة بأشياء ثمينة، وبما أسميناه “رسالة الموتالموجّهة إلى ألأحياء. أي تلك الكتابات الوعظية التي تذكّر بسراب الحياة، وبكوْن الملك والتجبّر والطغيان والجاه، كلها أمور لا قيمة لها أمام حقيقة الموت وما بعد الموت.

هنا تتضح أكثر تلك الموضوعة التي تخترق كتاب التحفة ككل، وبالتالي الفصول السبعة لهذا البحث، مثل خيْط دقيق ورفيع، ألا وهي موضوعة الميت/الحيّ، أي الذي يبدو كأنه حيّ رغم موته. ذلك أن ملوكاً وأنبياء وشخصيات، تنتمي إلى مرحلة ما قبل الإسلام، يتمّ اتخاذها، هي ورسائلها، والمناطق الجغرافية التي تنتمي إليها، كنماذج سلبية أو إيجابية، حسب السياق الذي ترد فيه. لنتأمّل ما يرويه الغرناطي، عن حفيرة شداد بن عاد، على لسان الشعبي: ” في جبل بحضرموت حفائر قبور الملوك المتقدمين من العادين، وغيرهم من الجبابرة، وأن الله سبحانه وتعالى قد خصّ ولد عاد بعظم الأجساد، وشدة البأس، وكثرة القوة، وسعة الملك. فوجدت حفيرة شداد في الجبل ينزل إليها في أدراج محفورة، علوّ كل درجة عشرة أذرع، وهي أدراج كثيرة، فوصلوا إلى أزج تحت الأرض عظيم فيه سرير من رخام منقوش بالذهب، وعليه شداد بن عاد كأنه قطعة من جبل مطليا بالمر والصبر والمغرة لم يسقط من جسده شيء، وعند رأسه لوح من ذهب في مكتوب شعراً”27. ثم يورد الأبيات التي “يتحدث” فيه شداد عما قام به من تحدّ للإله، والعقاب الذي ناله. بعد ذلك، يذكر قبر “مرثد بن شداد”، الموجود على الهيئة نفسها، إضافة إلى وجود ثلاثة أحجار، في قاع بئر باليمامة، لرجال من بقايا “عاد”، كان قد قتلهم أحد ملوكها، اسمه تبّع، نقرأ على اثنيْن منها أبياتاً شعرية في ذمّ السلطة والتجبر، وتفاهتهما أمام حتمية القدَر.

خلافاً لذلك، تجري الأمور، مع أبي حامد الغزالي في كتابه التبر المسبوك في نصيحة الملوك، بدون قطيعة ولا رفض، وفي جوّ من التضامن والاحترام التام. ذلك أنه لما اكتشف الخليفة المأمون قبر ملك الفرس، “كسرى أنو شروان، وجده، هو بدوره، كامل الصورة، لم يتغير منه أي شيء. بل أكثر من ذلك، إن الوصف الذي يقدمه الغزالي عن “أنو شروان”، يتطابق، إلى حد كبير، مع تورده الروايات عن قبر سليمان وخاتمه، وبخاصة ذلك الوصف الذي نقرؤه عنه في الليالي، حين يصل بلوقيا إلى الجزيرة التي فيها القبر: “لما كشف المأمون تربة كسرى أنو شروان، وفتح تابوته وفتشه، وجد صورته وهي بمائها ما بليت، والثياب بجدتها ما تغيرت ولا خلقت، والخاتم في يده ياقوت أحمر كثير الثمن ما رأى المأمون قبله فصاً مثله وكان على فصه مكتوب به مه نه مه به. ومعنى ذلك الأجود أكبر وليس الأجود أكبر فأمر أن يغطى بثوب نسج من الذهب. وكان مع المأمون خادم فأخذ الخاتم من أصبع كسرى ولم يشعر المأمون، فلما علم به أعاده وأمر بإهلاك الخادم، وقال: كاد يفضحني بحيث يقال عني إلى يوم القيامة إن المأمون كان نباشاً وأنه فتح تربة كسرى وأخذ خاتمه من أصبعه”.28

وإذا كان أولئك الذين يصِلون إلى قبور الملوك والأنبياء السابقين، يأخذون معهم جزءاً مما تحتوي عليه قبورهم، من أشياء ثمينة، كالملابس والمجوهرات، فإن المأمون لم يأمر بذلك، خلافاً لما فعله الأمير موسى في الليالي، والرجال الذين دخلوا حفيرة شداد، و”أخذوا لوح الذهب وانصرفوا وقد تعجبوا”29.

أمواتٌ كأنهمْ أحياء، أشعار وكتابات وعظية، تتطابق مع تلك التي صادفها الأمير موسى، قبل وصوله إلى مدينة النحاس وبعد مغادرتها، كنوز لم تنفع أصحابها متناثرة هنا وهناك الخ. كل شيء يمشي، في اتجاه تحقيق وتأكيد ثلاثة أهداف:

الهدف الأول هو أن هناك عقاباً هنا، فوق الأرض، أو تحتها، قبل الوصول إلى العقاب السماوي. ذلك أن الدرس الأساسي، الذي ينبغي استخلاصه من الكتابات الشعرية (أداة التعبير المثالية لهؤلاء الذين يتحدثون من الماضي ما قبل الإسلامي)، هو أن
أما الهدف الثاني، فهو المتمثّل في ضرب مفهوم التوريث والاستمرارية. فما
ينتمي إلى هؤلاء، من أموال وكنوز وجواهر إلخ، أمر يخصّهم هم، وخيْرات لا قيمة حقيقية لها حتى وهي خيرات ثمينة. وبالتالي لا ينبغي توارثها لأنها تحمل معها ماضيها الملوّث وسيّء السمعة. لقد وجِدت الكنوز المادية إلى جانب الكنوز المعنوية، المتمثلة في الكتابات الوعظية، منذ “مدينة النحاس” إلى حفر الموت، لتفقد قيمتها بصفتها كنوزاً، وبصفة أخصّ بصفتها مصدراً للخطر: فقد مات طالب بن سهل، في رواية الليالي، حين دنا من الملكة ليأخذ مجوهراتها، بينما تتحاشى أغلب الروايات الدخول أصلاً إلى المدينة المنحوسة؛ هذا في الوقت الذي تتفادى فيه شخصيات أخرى أخْذ أيّ شيء ثمين يحمله الأموات، كما فعل الخليفة المأمون الذي تولّى بنفسه معاقبة الخادم الذي سرق الخاتم.30
أما الهدف الثالث، فإنه يعتبر نتيجة طبيعية للهدفيْن السابقيْن، ثمّ إننا
حدسناه، في الواقع، منذ أنْ اكتفى الأمير موسى، في رواية الغرناطي، بتسجيل تلك الكتابات وإرسالها إلى الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان. لقد تحوّل طلب الكنوز، في التحفة، إلى طلب للحكمة التي يتمثّل نموذجها في كلّ من الملك منسك بن النفرة والخضِر. فقد فهم بأن المدينة ينبغي أن تبقى مغلقة، باعتبارها حفرة موت كبيرة، مادامت رسائل الموت والحكمة متناثرة هنا وهناك خارجها.
وبالتالي، فما تمّ توريثه، في نهاية الأمر، هو الكنز المعرفي،
والسياسي أيضا، الذي جعل الخليفة يقول، بعد قراءته لرسالة موسى:” الحمد لله الذي جعلنا من أمته عليه السلام، وأجاز لنا الرسول وأحسن إليه”31. ويمكن أن نتصور الأمير موسى وقد عاد إلى وطنه، أو إلى أيّ مكان آخر، ليعتزل الناس ويتفرغ للعبادة. وهذا الافتراض، بالفعل، هو الذي يذهب إليه أندراش حموري.32

يتوفر العالم السفلي، في التحفة، على خمس خصائص رئيسية هي:

انطواؤه، هو كذلك، على الكثير من العجائب.
الأموات من الأنبياء والملوك والشخصيات الكبيرة غير مدفونة، بل إنها مسجاة
ومرئية، ولم يتغير منها أي شيء، كأنها لازالت حيّة.
احتواؤها على كرامات
.
موضعتها في موقع سفلي
.
أما الظلمة المميزة للعالم السفلي ، فترتبط بالقيمة السلبية للسواد
باعتباره “خطيئة وقلقا وتمردا وعقابا”33، وباعتباره رمزا لحضور الحيوانات الشريرة وشياطين الجحيم ” سمعنا في قبره صوتا، وكان صوته يضرب بالخشب(…)، فاجتهدنا حتى أخرجنا صندوقه، ففتحناه، وإذا بالشاب ملقى على ظهره، وكفنه عند سرته، قد اسودّ حتى صار كالليل البهيم، وقد خرجت عيناه على خدّيه، وعلى صدره حيّة سوداء، مقدار ذراعين في غلظ الساق، وفمه في فمه، وهي تحرك رأسها في فمه، كأنها تلقي في فمه شيئا(…) فقال رجل: ويحكم هذه ملك الزبانية” 34. وهكذا فظلمة القبر ترتبط بالظلمات المخيفة، كما ترتبط بالاضطراب والجلبة والزفير.